شعب مصر يصنع تاريخا جديدا
لا، ليس بالخبز وحده، ان وجد، يحيا الإنسان، فهو
بالإضافة إلى حاجاته الضرورية للحياة كائن حي، يحس ،
يتألم، يفكر، يشعر بالكرامة والحرية، يستجيب لكل
القضايا المادية والنظرية والمعنوية في حياته اليومية،
ومحيطة الاجتماعي والسياسي، فهو يبصر ويستمع ويشاهد
ويتحدث خاصة في هذا الزمان حيث أصبحت وسائل الإعلام
المرئي والمسموع والمقروء تضع بين يديه كل القضايا
الوطنية والعالمية لحظة بلحظة، حيث أثبتت ثورة شعب مصر
الحجم السياسي والاجتماعي الكبير لشباب وظفوا
تكنولوجيا الإعلام بالذكاء والإصرار اللازم للتجميع
والتحرك وتحقيق الاهداف مما جعله يرتبط ارتباطا عضويا
بثورة الاتصالات.
مثلما غدت أنماط الاستهلاك بكل أشكاله والياته مفروضة
بكل مكوناتها ونتائجها على حياة الإنسان اليومية وعلى
تكوينه وتطلعاته ونعني هنا بالاستهلاك مستلزمات الحياة
ليس الكمالية حيث تختلط في عصرنا هذه الأنماط مثلما
تختلط فيه المفاهيم والقيم في إطار القضايا الكبرى
والصغرى للشعب والوطن والحياة والبناء، وهذا واقع
تعيشه العديد من الشعوب في عالمنا الثالث بعامة وشعبنا
العربي في الأقطار العربية بخاصة في ظل الاستغلال
المادي والمعنوي الذي يتعرض له. وكما أسلفنا فقد تجلى
هذا الواقع وبشكل كبير في العديد من أقطار امتنا بسبب
تركيبة وضعها وغياب الديمقراطية والوحدة السياسية
والاقتصادية واشتداد الهجمة الامبريالية والصهيونية
عليها حيث يتم احتلال الأرض واستيطانها وجر أنظمة
عربية للوقوف إلى جانبها مما عطل المشروع النهضوي
العربي الذي يضع الأمة في الموقع الصحيح وطنيا وقوميا
حيث أصبحت بفقدان هذا المشروع وارتباط العديد من
الأنظمة الحاكمة في أقطارها تشكو من غياب المعيار
الاخلاقي والقيم السليمة التي تحكم السلوك والعلاقات
بين الشعب وحكامه وجعلت الكيان الروحي لأفراده
وجماعاته تفقد الكيان الشخصي وتهميش القيم والمثل
العليا في حياتها ويظهر لديهم الشعور بالدونية
وبالتالي تتشكل حالات الإحباط لديهم وتدفعهم إلى
التفكير بإمكانية استعادة كرامتهم وحريتهم ورفع الظلم
والاستبداد والاستغلال عن كاهلهم سيما وأنهم يرون
بأبصارهم وبأحاسيسهم هدر هذه الحرية والكرامة مثلما
يرون طبقة حاكمة تابعة سياسيا للأجنبي وسياساته مثلما
يرون كيف تقوم هذه الطبقة أو الفئة بنهب ثروات الوطن
واستلاب حريته.
نقول هذا لنصل إلى ثورة شعب مصر بملايينه حيث وظف هذا
الشعب حاجة الإنسان وشعوره بالظلم وطاقاته توظيفا
سليما وناجحا وفعالا في الدفاع عن حقوقه ووجوده وحريته
وكرامته وعقيدته وثقافته ما يميز شخصيته ومقوماتها في
هذا الوجود.
نعم، لقد دفع الشعب العربي في جمهورية مصر العربية
ثمنا باهظا وتحمل أعباء كبيرة بسبب انفراد سلطة ظالمة
في الحكم وقد وصل هذا الثمن إلى حرمان هذا الشعب من
ابسط ضروريات الحياة حيث الفقر والبطالة والاستبداد
وسلب الحريات وتم تهميش القطاع الأوسع من المواطنين
إضافة إلى القمع السياسي والقهر الطبقي والتضليل
الفكري والإعلامي، وصبر شعب مصر وكظم الغيظ ولكن لم
يكن من المعقول ان يتحمل المعاناة أكثر من عشرات
السنين حيث طفح كيل الظلم وفاض مما دفعه للتحرك من اجل
الخروج من حالة الظلم والاستبداد والكبت ورهن البلد
إلى سياسات تخدم الأعداء الصهاينة والامبرياليين
الشركاء لهؤلاء الصهاينة فرابط بصبر وعناء في الشوارع
والساحات من اجل استعادة حريته والحفاظ على كرامته
وحقوقه المشروعة وبناء ديمقراطية حقيقية تعطيه حقه
بالمشاركة السياسية وتداول السلطة عبر صندوق
الانتخابات الحرة والنزيهة وفقا لقوانين ديمقراطية.
وكان له النجاح الذي يجب الحفاظ عليه خاصة وان الشعب
الذي حقق الانتصار يدرك تماما ان إرادته تصنع النصر
الذي كان يظهر بأنه ضرب من المستحيلات قبل انطلاق
ثورته ضد الحكم الفاسد والمستبد الذي يعتمد على حفنة
من المرتزقة المدججين بالحديد والنار.
طبعا، عندما نتحدث عن الديمقراطية التي لو كانت موجودة
في مصر وتونس وغيرهما لما امكن ان يحصل ما حصل حيث ان
الديمقراطية تنظم العلاقة الصحيحة والسليمة بين الحاكم
والمحكوم وتوفر لهذا المحكوم حقوقه وتوضح له واجباته
تجاه وطنه، ذلك لان الديمقراطية أفكار وقيم ومؤسسات
تقوم على إرادة الشعب والحريات العامة ويسود في مبدأ
التعددية السياسية ومبدأ المعارضة المشروعة المسؤولة
وكذلك إعطاء المواطنين حقهم في التعبير والتنظيم وتسود
الوطن توازن بين السلطات حيث لا تفرض سلطة نفوذها على
أخرى وبخاصة على سلطة القضاء الذي يجب ان يبقى قضاء
مستقلا.
ان غياب الديمقراطية يجعل المجتمع يعاني من الضرر
والتسلط والظلم والاستبداد والفقر وهذا ما عاشه شعب
مصر ومن قبله شعب تونس وما تزال أقطار أخرى تعاني منه،
خاصة تلك الأقطار التي يرهن حكامها سياساتهم للغرب
والتسليم بسطوة القطب الواحد، الولايات المتحدة
الأمريكية، وبذلك فهي ترهن وجودها وبقاءها على اسس
مغايرة للحقيقة، فالشعب هو وحده القادر على حماية
الحاكم الذي يخدم الشعب اما الغرب فهو يتخلى عن هذا
الحاكم عند اول سقطة حيث يشكل الرئيس السابق في مصر
ومن قبله في تونس نموذجا حيا قريبا. بمعنى ان شرعية
النظام واستمرارية وجوده تنبع من الشعب وليس من
الارتهان للقوى الأجنبية مهما بلغت هذه القوى من القوة
المادية والعسكرية لأنها تدافع عن مصالحها ومصالحها
فقط.
وهذا يجعلنا نؤكد على ان سقوط الأنظمة في تونس ومصر قد
تم مع سقوط وهم الاعتماد على الآخرين وان البقاء
والاستمرار لا يتم بمعزل عن الشعب بل والأمة بأسرها
حيث بات واضحا ان الأزمات السياسية والاقتصادية
والأمنية التي تعاني منها الأقطار العربية تتطلب
التعاون والتنسيق والتكامل العربي. مثلما تجعلنا ثورة
شعب مصر نؤكد على انه لا بديل عن الاهتمام بمصالح
الشعب وتوفير متطلباته واحترام حقوقه وعلى بناء العقد
الاجتماعي السليم ومكافحة الفساد والفاسدين والفئات
الطفيلية التي تستغل المراحل غير السليمة للنظم
الاقتصادية وتركز نشاطها بما يخدم مصالحها الذاتية على
حساب الشعب فتعمل على السمسرة وتحتكر الاستيراد
والتصدير والمضاربات في السوق السوداء مثلما تحتكر
الاستثمار في المواد الاستهلاكية لمصالحها مما يعمل
على تشويه القيم الإنتاجية وتصبح لها اليد الطولي في
ترتيب القوانين والتشريعات التي تحقق مصالحها عبر
الوصول إلى المؤسسات التي تدير البلاد سواء التشريعية
منها أم التنفيذية لتوظيفها في إشباع جشعها ونهبها
اوليس هذا ما كان قائما في تونس ومصر وهو ما جعل الشعب
يفقد قدرته على المزيد من الصبر أمام المعاناة من
هؤلاء الطامعين بثروة الوطن؟ ألم نشهد مؤخرا كيف كانت
ا لانتخابات البرلمانية في مصر حيث التزوير المفضوح
والوصول إلى المجلس المسمى زورا وبهتانا بـ "مجلس
الشعب" من اجل مصالح الحزب الحاكم، المسمى زورا أيضا ب
"الوطني الديمقراطي"؟
وأخيرا، نتساءل هل ستؤثر الثورة التي شهدتها جمهورية
مصر العربية بالتحديد في وطننا العربي من حيث هياكل
توزيع السلطة؟ بمعنى هل المشهد الذي رآه وعاشه الجميع
في مصر وأقطار الأمة العربية وحتى العالم وما تم
انجازه يمكن ان يحدث تغييرات عند السلطات الحاكمة بحيث
تقوم بتغيير أساليبها ونظمها وتوجهاتها في الحكم. سيما
وان هذه الثورة، هي ثورة ضد استغلال الثروات لمصلحة
قوى متسلطة على مقدرات الشعب وحرمانه من ابسط حاجاته
الضرورية للحياة، مثلما تمثل هذه الثورة عملا جريئا
يحصل من خلاله الإنسان على حقوقه وكرامته وحريته، كما
كانت موجهة إلى سياسات النظام المرتهنة لأعداء الشعب
والأمة الصهاينة والامبرياليين.
على كل حال، وفي ظل هذه الاحداث وتداعياتها التي يمكن
ان تمتد الى أقطار أخرى لا بد وان نؤكد على ضرورة
تماسك قوى الشعب ومنظماته من اجل استعادة حقوقها كما
انه لا بد وان نؤكد على المناضلين التمسك بالمقاومة
لمواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي بحيث يلتقي هؤلاء
على أرضية عمل مشتركة ويكون الفرز أيضا على أساس
الموقف من مشاريع أعداء الأمة الذين يستهدفون بعدوانهم
الأمة في استقلالها ووحدتها وثرواتها.
فـــؤاد دبـــور
عمان 13/2/2011
|