تطرح أمام الباحث بفكر أي حزب قضايا منهجية لا بد من
توضيحها لان في مثل هذا التوضيح يتوضح المنطلق الفكري
للتعرف على نظرية الحزب المعني وأفكاره، وبايجاز كبير
نستطيع القول بأن هناك مجموعتين من القضايا المنهجية
الأساسية التي تطرح في هذا العدد:
·
المجموعة الأولى : تتعلق بتحديد واستخدام
المصطلحات.
·
المجموعة الثانية: تتعلق بأطر التحليل التاريخي
الدينامي لفكر الحزب.
ولا بد من التأكيد بأن السمة الدينامية لفكر حزبنا
ولممارسته كانت حاضرة حضورا قويا في جميع المراحل
لدرجة ان هذا الفكر وهذه الممارسة نشأتا داخل الأطر
الحركية نفسها ونحن هنا لسنا أمام شيء جاهز ومكون
مسبقا وإنما امام شيء ينتج ويترعرع وينضج في اطار
التطور نفسه، وعلى هذا فإن الوضوح النظري للحزب مثله
مثل التطبيق يتكون داخل الحركة نفسها.
ويختلف حزبنا عن غيره من الأحزاب التي تبنت نظريات
جاهزة مسبقا توصلت إليها إما عن طريق النقل او عن طريق
التأمل، ثم اضطرت بعد وقت طويل أو قصير من ممارستها
الى التخلي عنها او تعديلها جوهريا بسبب اصطدامها
بالواقع في تطوره.
انطلق حزب البعث من هويته القومية الاشتراكية وأطرها
الثابتة ليبني فكره
وممارسته في اطار الحركة التاريخية للواقع وليس خارجها
وقد اتسمت أيديولوجية الحزب السمات التالية.
1.
ان أيديولوجية (فكر، عقيدة، نظرية) حزب البعث ذات
مرتكز جماهيري.
2.
انها أيديولوجية قومية – اشتراكية.
حول السمة الجماهيرية لأيديولوجية الحزب:
النظرية الجماهيرية التي يتبناها حزب البعث لا ترفض
الطبقية من الأصل وإنما تستوعبها وتتبنى العديد من
منطلقاتها عن طريق تصعيد هذه المنطلقات وربطها بغيرها
في منظور اشمل هو المنظور الجماهيري، والاستيعاب يصعد
النواحي الايجابية في النظرية المستوعبة ويضعها ضمن
قوالب فكرية شمولية جديدة، كما انه يرفض النواحي
السلبية في النظرية المستوعبة ويشير الى قصورها بل
ويخرجها من التركيب الفكري الشمولي الجديد.
ومصطلح الجماهير من المصطلحات التي تحملت القسم الأكبر
من الظلم والاستخفاف في الأدبيات السياسية والاجتماعية
في القرن العشرين، علما بأن اللغات العالمية تخلو من
كلمة منفردة ومستقلة تعني الجماهير، لذلك كان الفضل
للغة العربية في استعمال مصطلح الجماهير بمعناه الواسع
ولحزب البعث العربي الفضل في توطيد هذا المفهوم
وتعميمه مصطلحا قاعديا في اللغة السياسية. والجماهير
في مفهوم الحزب يشمل كل الفئات الاجتماعية التي لها
مصلحة في التغيير، لذلك فإن الأمر هنا لا يقتصر على
البنية الاقتصادية للمجتمع كمحدد وحيد في تحديد
العلاقة بالمنهج وإنما يشمل ايضا بنى اخرى كالبنية
القومية وغيرها، وعلى هذا فإن مفهوم الجماهير لا ينفي
مفهوم الطبقة لكنه يستوعبه وتحدد آلية الاستيعاب في
الأمور التالية:
1.
ان لفظ الطبقة هو لفظ محايد من وجهة نظر أيديولوجية
فنحن نقول طبقة العمال وطبقة الرأسماليين لكن لفظ
الجماهير يتضمن البعد الأيديولوجي للتغيير في حد ذاته.
2.
العلاقة الطبقاتية لا تخلق الوضع الثوري بالضرورة
وحتما وذلك بسبب انطلاقها القطعي من الوضعية
الاقتصادية، والثورة هي حركة تغيير شمولي أما الوضعية
الاقتصادية فهي مجرد جزء من أجزاء الواقع وان كان هذا
الجزء هو في مراحل معينة الجزء الأكثر أهمية.
3.
نلاحظ ان الطبقة العاملة في الدول الصناعية المتطورة
ليست هي العامل الثوري الوحيد والأساسي الذي يستقطب
حوله جميع القوى الأخرى ذات المصلحة في التغيير وإنما
هناك جماهير متعددة البنى تمثل العامل الثوري فعلا،
وتكون الطبقة العاملة مجرد مكون من مكوناتها مع
التأكيد على ان الطبقة العاملة تكون دائما ذلك الجزء
الأكثر تنظيما والأكثر قربا من الوضع الثوري والأكثر
استعدادا لتفجيره كلما ازداد التطور الاقتصادي وازدادت
وتيرة التنمية ومستوياتها.
4.
مفهوم الطبقة ثابت نسبيا أما مفهوم الجماهير فهو مفهوم
متحرك متغير البنية باستمرار فحدود الجماهير وتركيبها
والفئات التي تدخل فيها وتخرج منها تتبدل باستمرار في
مجرى النضال.
5.
ومقابل العامل الاقتصادي الذي يحدد مفهوم الطبقة يكون
العامل الثوري هو المحدد لمفهوم الجماهير.
6.
اذا شكلت العملية الاقتصادية طبقتين متنافرتين فهذا
يعني ان الصراع بينهما سيؤدي مع الزمن الى انتصار
احدهما على الأخرى، الأمر الذي يعني قيام ديكتاتورية
الطبقة المنتصرة وهي في الواقع ديكتاتورية الحزب الذي
يمثل هذه الطبقة وانتصار احدى الطبقتين يعني انتصار
نصف المجتمع ضد نصفه الأخر.
لكن المفهوم الجماهيري يحل كل هذه الإشكالات عن طريق
الوعي المتجذر في الواقع وليس فوقه وبما ان الجماهير
تعيش الواقع وتتطور معه فهذا يعني بالضرورة انها تحس
حسا حقيقيا وليس ذهنيا جميع التحركات الايجابية
والسلبية في هذا الواقع.
7.
لا ينتهي مفهوم الجماهير عن المصلحة في التغيير بل
يتعداه الى المصلحة في التطوير من أجل ترسيخ وتعزيز كل
ايجابيات الواقع.
·
حول السمة القومية – الاشتراكية لإيديولوجية الحزب:
القومية تعبير عن وعي الأمة لذاتها من جهة أولى
وحركتها من أجل تحقيق هذه الذات من جهة ثانية وهذا هو
التفسير المركز لشعار الحزب الشهير (أمة عربية واحدة
ذات رسالة خالدة).
ان وعي الأمة العربية لذاتها قائم في حركتها من اجل
تحقيق هذه الذات وحركتها هذه قائمة في تعبيرها عن
وعيها لذتها.
ومهمة الحركة القومية كوعي لا تقتصر على تفسير الواقع
وفهمه وكشفه وإنما تتعدى ذلك نحو تحقيق الجدوى من هذا
الكشف، وهنا لا بد من التأكيد على الأمور التالية:
1.
يتم التفريق بين امة وأخرى على أساس موقعها ودورها في
العطاء البشري الزاخر.
2.
ان وعينا لذات امتنا ولأساليب تحقيق هذه الذات يجب ان
يتناسب ومنطق تطور الأمة لا ان يكون امام او فوق هذا
المنطق. ان مضامين القومية في فكر البعث لا يمكن ان
يمثل مجرد تصورات ذهنية لما يجب ان تكون عليه الأمة
وإنما يجب ان يتجذر هذا الوعي في واقع تطور الأمة
وتكون مهمة فعاليته الذهنية
واستنباط
المسارات التي تمثل التطور الأمثل للأمة بين
الاحتمالات الممكنة على ساحة التاريخ .
3.
لقد اغني نضال حزب البعث وفكره عملية النهوض القومي
العربي الحديث وهنا لا بد من التأكيد ان المنهج القومي
لم يتكون في رؤوس البعثيين دفعة واحدة او بعد عملية
جلوس في الغرف المغلقة والتأمل في الواقع ثم إعادة رسم
صورته الذهنية استنباط النتائج على أساس ذلك، ان هذا
المنهج القومي جاء نتيجة نشاط حركي تفاعلي مع الجماهير
وحريتها ونضالاتها، فحركة الجماهير وحدها هي المؤشر
الى حركة التاريخ، وإننا لنكاد نقف مشدودين امام صحة
التوجهات العامة للنضال البعثي في جميع مراحله،
وبالتأكيد فإن سبب هذا النجاح لم يكن بسبب الوضوح
النظري او بسبب الضبط والإتقان في فكر الحزب ونظريته
وإنما السبب ببساطة هو التزام الحزب الدائم بالجماهير
كمعلم
وكموجه
ومؤشر للنضال، لذلك كان الحزبيون الذين يخرجون عن هذا
المنطق يتساقطون رغم أهميتهم القيادية وينتصر أولا
وأخرا الحزب بخطة الجماهيري وهذه سمة يفتخر بها
البعثيون وهي دليل عمل دائم لنا ، فالجماهير ومصلحتها
فوق كل نظرية وفوق كل مفهوم مسبق.
فالنظرية تكون نظرية صائبة عندما تعود دائما الى
الجماهير لتفحص صواب منطلقاتها الفكرية واستنتاجاتها
الذهنية ومدى استجابتها لظروف المرحلة. لقد جعل الحزب
من الفكر القويم والبناء القومي بناء متجذرا في أرض
الواقع المعيشي بكل
إبعاده
وهذا هو الأساس في ربط
الجانب
القومي للايديلوجية البعثية المتكاملة بالجانب
الاشتراكي لهذه الأيديولوجية. ان مضمون أيديولوجية
البعث لا تتكون من القومية + الاشتراكية وإنما هي
تركيب قومي اشتراكي، وان هذا المصطلح هو لفظ واحد
منحوت من لفظين.
ان تلاحم النضال القومي بالنضال الاشتراكي لا يعني
توازي النضاليين بل يعني ظهور بنية نضالية جديدة مركبة
هي النضال القومي الاشتراكي
والأيديولوجية
القومية الاشتراكية وبسبب بنيتها التركيبية تمتلك
القدرة على تقديم الحلول النضالية المناسبة لكل مرحلة
من مراحل تطورنا المعاصر.
ان هذه الإيديولوجية تمتلك القدرة على تقديم الحلول
النضالية المناسبة والمرحلية لواقع وظروف كل منطقة من
مناطق وطننا العربي في مرحلة غياب الوحدة العربية.
والانتصار في معركة الوعي القومي هذا لا يعني ان هذه
المعركة قد انتهت فنحن الآن امام محاولات جديدة لإعادة
إحياء (الوعي) اللاقومي أي الوعي الزائف ولكن القوى
القطرية والإقليمية والانعزالية اليوم اضعف بكثير فيما
كنت عليه في الأربعينات في منطقها وان امتلكت المقومات
المادية التي تمكنها من فرض منطقها قسرا والى حين في
حيز الزمان والمكان.
أما الوعي القومي وكذلك الحركة القومية اليوم فهي اقوى
بكثير مما كانت عليه في تلك الفترة وقد اضحى وعيا
قاعديا وأساسيا عند كل الجماهير العربية من المحيط الى
الخليج وان كان بحاجة الى عملية تحريضية تجسده في ارض
الواقع.
حول السمة الثورية لأيديولوجية الحزب:
ترتبط السمة الثورية للحزب بالجماهيرية لان الجماهير –
كما ذكرنا – تسعى من اجل تغيير الواقع وتطويره ونكاد
نقول ان التحدث عن الثورية يكون مجرد تحصيل حاصل بعد
التحدث عن الجماهير، لان الجماهير بطبيعتها ثورية،
وتكتسب السمة الثورية أهمية خاصة اذا ما أخذنا بعين
الاعتبار ظروف الواقع العربي وحالته الراهنة في إطارها
القومي، لذلك فإن القومية إضافة الى الجماهيرية تشكل
منطلقا أساسيا في تحديد السمة الثورية للحزب.
وبما ان المنطلق الثوري يمثل منهجا فكريا ونضاليا عاما
أي انه ينطبق على جميع مضامين الأيديولوجية فهذا يعني
ان الحزب بالضرورة رفض كل المفاهيم الإصلاحية
والاستسلامية والانهزامية والتي تهادن الواقع وتقبله
(على علاته) وبالتالي فإن كل تفسير يميني لأفكار الحزب
ومنطلقاته غير ممكن أصلا لان هذه الأفكار لا تتحمل أي
تفسير إصلاحي من الأصل وهذا ينطبق على جميع مضامين
الأيديولوجية الحزبية سواء كانت تتعلق بالتحرر القومي
او بالبناء الاشتراكي او بالتنمية او بالوحدة. |