لا، القومية العربية باقية مع الحياة

دأب البعض على الحديث المتكرر عن (سقوط) الفكر القومي، او ان هذا الفكر قد عفى عليه الزمن وتجاوزته الأحداث. وغالبية هؤلاء من كتبة النص السياسي السطحي الذي هدفه الاثارة واللغو ومحاكاة الخطاب السائد في وسائل الاعلام العالمية القريبة من الدوائر الصهيونية والامبريالية والاحقاد التركية الاردوغانية. هذا النص يشكل امتداداً لما يتم ترويجه وتسويقه حول مشروعات ومخططات شرق أوسطية جديدة او كبيرة، تتعامل مع المنطقة كمادة استراتيجية واقتصادية وسياسية، ولكنها تسعى الى طمس هويتها القومية، والقفز فوق حقيقتها التاريخية لصالح مفاهيم جغرافية مبسطة يمكن من خلالها ادماج الكيان الصهيوني في نسيجها الاقتصادي والسياحي والسياسي وحتى الأمني.

ان الذين يستسيغون الحديث عن “موت القومية” هم غالبا يحاولون التعبير عن الإحباط بسبب ما وصلت اليه الأوضاع العربية الراهنة من انقسامات ونزاعات عربية- عربية، وارتباط بعض الأنظمة مع الكيان الصهيوني الغاصب والقاتل. هذا إذا استثنينا سوء النية والارتباط بأفكار وايديولوجيات قطرية او إقليمية.

اعتقد حملة الفكر القومي بإمكان قيام الوحدة القومية دفعة واحدة وبسرعة. وقد اثبتت التطورات ومجريات الاحداث في الوطن العربي ان هذا غير ممكن، لكن هذا لا يعني ان فكرة التكامل العربي وبالتالي الوحدة العربية، هي فكرة طوباوية. الخطأ ليس في مفهوم الوحدة وانما في فهم أساليب بلوغها بعيدا عن المنظور الواقعي. كنا نقول: ان الوحدة العربية حتمية، لكن هذه “الجبرية” كانت تفهم بمعناها التلقائي دون معرفة طبيعة التحولات التاريخية اللازمة لتحقيق حتمية الوحدة.

في حقيقة الامر، الوحدة العربية هي احقاق الحق القومي، وهي تحتاج الى عمل وتبنّ إرادي والى حرية اختيار. كما تحتاج، قبل كل شيء، الى تعامل مراحلي مع واقع موجود، وليس الى القفز من فوقه. المشكلة ليست في مفهوم الوحدة، وانما في العمل الواقعي باتجاه تحقيق شكل من التعاون والتضامن العربي يكون مقدمة لشكل اخر من الوحدة أكثر تطورا في سلسلة مراحلية يشارك فيها العرب جميعا دون فرض او اكراه، ودون ان يلغي أحد، باسم القومية والوحدة الاخرين.

لكن السؤال الان: هل المشكلة في الفكر القومي ام حاملي هذا الفكر؟

المشكلة ليست في الفكر القومي او في القومية العربية، وانما في البعض من حاملي هذا الفكر من أحزاب واشخاص، وفي فهم هذا الفكر ومكوناته ومرتكزاته اللغوية والجغرافية والثقافية، إضافة الى التصور النظري والعملي لسبل تحقيق الأهداف القومية. وفي بعض الأحيان يبدو “القطري” نقيضا “للقومي”. هذا نوع من الوعي الزائف غير الصائب، فكل ما هو في المصلحة الحقيقية لأي قطر يكون حتما في المصلحة القومية للأمة. وكل ما يضر بالأمة سيضر بالقطر حتى ولو لم يظهر هذا الضرر الا بعد حين.

هذا التحليل ليس له علاقة بفلسفة الجزء والكل، لأنه قد يكون هناك من لا يعترف بجزئية الأقطار. بل هو نتيجة لتجربة سياسية عاشتها هذه المنطقة وتبيّن فيها التكامل الفعلي بين الدول العربية. فليست هناك دولة عربية واحدة تستطيع القول انه ليس من مصلحتها القطرية قيام تكتل قومي سياسي واقتصادي في هذه المنطقة. وليست هناك دولة عربية واحدة تستطيع القول ان نموها الوطني (أي القطري) ليس بحاجة الى مثل هذا التكتل. رغم ما نشاهده هذه الأيام من تباين في المواقف السياسية من القضايا القومية بعامة والقضية الفلسطينية والصراع مع الأعداء بخاصة.

“القطري” يتحول الى “وطني” عندما يتطابق مع القومي، اما عندما يسيطر عليه المفهوم الانعزالي فعندها لن يحقق البلد المعني أية مكاسب حقيقية. وهذا الربط بين القطري والقومي ليس ناتجا عن “المفهوم القومي التكاملي”، فحسب، بل هو ناتج عن منطق التكتل باعتباره منطق العصر السائد.

غالبية الأحزاب الهامة في الأقطار العربية وذات الشعبية تؤكد على الوجود القومي للعرب، أي ان فكرها ذو ابعاد قومية مقابل انحسار الأحزاب والحركات ذات الفكر الإقليمي. بل ان النظريات “الإقليمية” ستعود الى مفهوم القومية العربية القائم على أسس تعددية.

كانت النظرية القومية العربية تعتبر ان الوحدة ستحصل لمجرد وجود الامة، وان لكل امة حقا طبيعيا بدولة واحدة. هذه هي نظرية الحق الطبيعي وهي ليست خاطئة بالمطلق، لكنها قاصرة وغير كافية.

تحديث هذه الرؤية وتطويرها يتطلب دعمها بنظرية المصلحة، أي اظهار وربط مصلحة الانسان العربي بالتكامل السياسي والأمني والاقتصادي والعسكري والتوجه التحويلي نحو الموقف الواحد، ونحو القوة الدفاعية من مصالح الامة على طريق الوحدة.

ما نراه اليوم ونشاهده من سلوك أنظمة عربية بعيداً عن مصالح الامة ما هو الا مرحلة عابرة ستنتهي بوعي الشعب العربي الى أن الأمن والاستقلال والحرية والكرامة لن تكون إلا بالتوحد قوميا. والقومية العربية باقية مع حياة الامة.

الأمين العام لحزب البعث العربي التقدمي

فــــــــــــؤاد دبـــــــــــور